الهم الجسدي في الأدب النسائي الحداثي
د.صالحة رحوتي
مقدمة
الإسلام حرر الإنسان كله، و ما عمل على تكريس الفصل المقيت بين مكوناه، إذ اعتبره مزيجا من حفنة من طين و من نفخة علوية، فإن اعتنى ذلك المخلوق بالجزء الطيني فقط واحتفى به و بمتطلباته ارتكس و انغمس في الطين، وإن زاوج معه الاهتمام بالجزء الروحي أيضا، اعتلى و سما و انجذب من وهدة التردي و الاندحار.
و إيثار الجسد بالاهتمام كله في أي مجال كان سواء الأدبي أو غيره مفسدة و تضييع لحق الإنسان في التمتع بإنسانية تكرمه وترفعه، فالحيوانات إن استجابت لنداء الجسد المجرد وانساقت مع دعواته فإنها المسيرة في ذلك، و هذا مكمن الفرق مع الإنسان، ذلك المميز بالعقل المُقَيِِّد للغرائز المُسيِّر لها وفق ما يخدم حاجات روحه ونفسه و مجتمعه و ووطنه، و كذا العالم كله الذي هو مكلف بحسن الاستخلاف فيه.
و نظرا لتغييب مثل هذه القناعات الداعية إلى عدم إفراد الجسد بالاهتمام ـ و كذا اعتباره فقط رافدا يجب التعامل معه بما يجب مما ورد في مبادئ الدين ـ نرى أن انحرافات شتى بدت واضحة المعالم في كل الميادين و المجالات...
و لم يُغمط المجال الإبداعي الأدبي حقه من هذه الظاهرة، إذ اجتاح الحديث عن الأجساد جل مضامين الإبداعات الأدبية بصفة عامة، و خاصة منها تلك التي نسجت خيوطها المبدعات من النساء.
فالجسد حاضر في كل منعطف، و مُحتفى به في كل ركن...و مُطالَب بتمتيعه بأقصى درجات الحريات في جل الأنساق من الكلمات...
إنها المعادلات أضحت الثابتة و من قبيل المتفق عليه لديهن هن "المثقفات" الحداثيات النسوانيات، وهي كذلك المفاهيم الراسخة و أصبحت غير القابلة للتجاوز عندهن إلا تحت طائلة الوسم بالرجعية و بتكريس استحسان استعباد النساء...
* ـ البيت = السجن.
* ـ الزوج = تبلد الحس والبرود العاطفي.
* ـ الحياة الزوجية = القيود اللامرئية الموغلة بالمرأة في الإحباط و الضياع.
* ـ الجسد = الجوع الجنسي المتواتر غير المشبع بفعل الضغوط النفسية الناتجة عن التقاليد والدين و الزواج...
* ـ الدين = الأغلال و الحيف...وأيضا شتى صنوف القهر المبيحة لكبح حرية الجسد، و الداعية لعدم تمتيعه و الإمتاع به، و المانعة من حرية التعامل به و معه.
و هكذا...هلم جرا
ثم و هن دائما على نفس المنوال ينسجن...إذ:
* ـ إنه الحرمان الجسدي ذلك المتغنى به... المصور بعناية، و المشوب برثائيات للجسد الوَلِهِ إلى الإشباع و إلى الارتواء...
* ـ وإنها المعاناة النفسية الناتجة عن ذلك لدى المرأة في كل الطبقات و كل الفئات...
* ـ و إنها الدعوة إلى تخطي الحدود المرسومة، و إلى تحدي المتفق عليه...و إلى تجاهل الأحكام المسبقة و المحاكمات المجتمعية في سبيل تحقيق حقوق ذلك الجسد الظمآن المتشظي بفعل الحرمان...
* ـ و إنه التحفيز على الأخذ بالمباهج المتاحة لذلك الجسد الآيل إلى ترد، و من ثم زوال...و ذلك قبل فوات الأوان...
* ـ و إنه الجهر بالدعوة إلى ممارسة ما يمارسه الرجل من "حريات" في هذا المجال و هو "مضمون" الشرف "موفور" الكرامة...غير محاكم من طرف التقاليد
و الأعراف...
هذا هو المعبر عنه فقط ـ أو تقريبا ـ في كل النتاجات الإبداعية النسائية الحداثية...
و يُدبَّج و يُنمق الكل في لوحات تتكرر بشكل لا متناهي، و النتيجة صور نمطية تتكرر للمرأة المقصاة من تحرير الجسد، و من الاستمتاع بكل قدراته و إمكانياته و مكوناته...
و تَستخرِجُ تلك الصور المتناسلة أسئلة تفرض نفسها، بل و تلح في طلب الجواب، وذلك انطلاقا من أن تكريس الأديبات النسوانيات لجزء غير بسيط من إنتاجهن الأدبي للحديث حول كل ما يتعلق بالجسد، و برغباته... و بما يحيط به... و ما هو كائن حوله... لا بد ونابع من وجود حيثيات و أسباب معينة لابد أن منها:
1 ـ تداعيات وتأثير نمط الحياة الخاصة بهن هن المبدعات.
2 ـ الرغبة في ممارسة حرية التصوير و التعبير في الإبداع الأدبي كما تريده المدرسة الأدبية الحداثية.
3 ـ ركوب صهوة التحدي و الإقتداء بالأديب المبدع الرجل.
4 ـ الرغبة في إرضاء الغرب لنيل الحظوة لديه.
هذه على سبيل التمثيل لا الحصر بعض الأسباب، إذ لعل هنالك أخرى...و هذه أيضا محاولة للحديث حول هذا البعض المذكور في ما يلي:
1 ـ تداعيات وتأثير نمط الحياة الخاصة:
إذ يبدو و كأن مؤثرات ما نابعة من الوضعية الأسرية و العائلية للأديبات تتداخل
و توجه مسار الإبداع المنتج من لدنهن...و ذلك من قبيل:
أ ـ الحرمان من حياة زوجية مستقرة مشبعة:
و الذي قد يكون تأتى من أسباب شتى منها:
* ـ استمرار العزوبة:
ـ للعزوف صدر منهن عمدا عن الزواج في زمن ما...و ذلك تبعا للقناعات الإيديولوجية التقدمية و الاشتراكية كانت سائدة في الزمن الماضي، أو تلك الحداثية المنتشرة الآن بعد انهيار محراب المعسكر الشرقي، و ذلك انطلاقا من الحمولة الثقافية المواكبة للزواج كمكبل مقيد للمرأة في تلك الإيديولوجيات.
ـ أو للعنوسة الطارئة عليهن لأسباب اجتماعية أو ثقافية أو حتى شكلية مظهرية ما...
* ـ فقدان الزوج:
سواء:
ـ بالطلاق نظرا لعدم التوفق في الاستمرار في المؤسسة الزوجية.
ـ أو بوفاته ذلك الزوج.
ب ـ الرتابة و الملل في الحياة الزوجية:
هذه المظاهر التي تتسلل قد تدريجيا إلى الحياة الخاصة لأولئك المبدعات، التي تتحول بفعل الزمن إلى تباعد و تنافر بين الشريكين، و بالتالي إلى منجم للكآبة و التشاؤم، و تنحو بهن إلى تصوير الحلم بتحرير العلاقات الجسدية كحق مشروع للتخلص من أغلال الحرمان حتى دونما اعتبار للأخلاق...
ج ـ انعدام القناعات الدينية:
خاصة تلك التي تدعو إلى اعتبار الحياة الزوجية مؤسسة عبادية تتمحور حول إثبات القدرة على التعايش مع الشريك، و تنبني على الصبر و التحمل و تفهم ذلك الآخر و قبول هناته و ضعفه، كما تعتمد على الاستمتاع بمحاسن ذلك الآخر و بخصاله الطيبة، إذ هي تمظهرات الحياة كلها العبادة... و العبادة تمكن من الأجر، والأجر لا يكون إلا على قدر تجاهل المشقة و تخطي الصعاب.
د ـ انعدام القيم و المبادئ الدينية الضابطة للاستقامة الأسرية:
أي تلك المانعة من الانحراف الخلقي للأزواج، تلك الصادة لهم عن الخروج من أجل اصطياد المتعة الحرام التي تلهي و تمنع من الإحصان و الإعفاف المتبادل بين الزوجين.
فعدم الابتعاد عن المسكرات، و عدم تفادي الفضاءات المفتوحة المختلطة الماجنة، تساهم في التفلت و الانحلال الأسري، ذلك الذي يمارس باسم التحرر و التمدن المعتقد ضرورة تواجده ضمن مبادئ التقدمية و الفكر الحداثي "المتحضر"و الغير رجعي، و المتبع من طرف أولائك المنخرطين في سلك "الثقافة" و "التمدن"و العصرنة".
هـ ـ اقتران نسبة من الأديبات النسوانيات بمن ينتمون لنفس الفئة من الأدباء أو ال"الفنانين" و المبدعين:
الذين يرون في التحلل الأخلاقي و عدم اعتبار الأخلاق في التعبير الأدبي كما في الحياة الشخصية أسس و أعمدة ضرورية مكونة الصورة النمطية للكاتب أو المبدع الموهوب، ذلك الذي تُراد و تُتطلب منه ـ كما يعتقد هو و أمثاله في التوجه الفكري ـ بوهيمية و خروج عن المألوف و عن العادي، و ثورة على كل الالتزامات الاجتماعية حتى يستكمل شروط الانتماء إلى شريحة المتميزين.
هي صفات و سلوكيات معينة خاصة إذا تتبدى و تظهر من هذه الفئة من الأزواج... و تجد فيها حتما كل زوجة بغض النظر عن كونها أديبة مثقفة ـ ما يكفي من العوامل من أجل إعانتها على عدم استمراء العيش في بيت الزوجية، و ذلك لأنانية و فردانية تطبع هذا النمط من الأزواج يصعب التواجد معهم في فضاء واحد، بله الحصول على التواصل الشعوري و الإشباع العاطفي و من ثم الجسدي.
و ـ التشبع بمؤثرات عالم الخيال الجامح:
و كذلك قلة الجهد المبذول من طرف أولائك المبدعات من أجل المزاوجة المنطقية العقلانية داخل دواليب الفكر لديهن بين اللاواقعية في عالم الأحلام الأدبي المفعم بالحب والوله والغرام، وبين عالم الواقع المعاش الذي يتواتر فيه اليسر مع العثرات.
ز ـ التيه و التحليق في العوالم المتعالية الوهمية السردية والشعرية:
ذلك الذي يوحي بالازدراء لذلك الشريك المتشبث بالأرض، الغير المبحلق في فضاءات الخيال، و ذلك بالنسبة للمقترنات بغير المنتمين لشريحة المثقفين من المبدعات.
يتبع