"فتاة البسكويت" التيتضم قصص الكاتبة السعودية زينب البحراني، تشبه رحلة في روح كاتبتها وفي وعيهاالداخلي بما تقدّمه إلى القارئ من عوالم جوّانية تشتبك مع الهواجس وتستدرجها إلىبياض الورق. هي قصص الإصغاء إلى نداءات داخلية تعصف بكاتبتها وتدفعها إلى الانتباهالعميق ومحاولة تسجيل ذلك في حكايات، أهمّ ما فيها ذلك القدر الكبير من التشويقالذي يعيد إلى ذاكرتنا ملمحا مهما من ملامح القصة بات يتبدّد ويختفي من الكتاباتالقصصية الحديثة. تنحاز "فتاة البسكويت" (منشورات "دار فراديس للنشر والتوزيع"،البحرين، 2008) إلى المشاعر الإنسانية، الفردية والطالعة من الوحدة والتأمّل العميقفي الحياة لرؤية الحركة في ما هو ساكن أو ما قد يبدو كذلك، والذي نراه فاتحاًأبوابه لتنكشف حركيته المزدحمة بوقائع وأفكار وشيجة الصلة بعوالم وفضاءات إنسانيةحيوية وتنتمي بقوّة إلى الراهن بكل ثقله وحضوره. في القصة الأولى، التي تحملالمجموعة عنوانها، يمثل القارئ أمام حالة خاصة لعلاقة الفنان بفتاة لوحته التي يبذلجهدا حثيثاً لنقل ملامحها إلى القماشة الفارغة، لكنه يفشل كل مرة حتى يستبد اليأسبروحه. هي إشكالية من نوع خاص تنطوي على رؤية العلاقة بين الفنان وعمله في صورتهاالحقيقية، بما هي علاقة روحية حيث تتوحّد شخصية الخلاّق بموضوعه، وهي هنا وفي هذهالقصة بالذات تتصاعد إلى حد التحوّل هاجسا دائما يحتلّ وجدان الفنان ويهيمن علىكيانه ويدفعه إلى التعايش مع "بطلة" لوحته. لا تكف فتاة البسكويت في القصة عنالتهام قطع البسكويت التي لا تنضب لكنها لا تشبع ولا تكتفي. كأن الروائية تشير بشكلآو بآخر إلى جوع من نوع مختلف، يجد رمزيته في التهام البسكويت ويظل مستعراً وتتواصلمعه رغبة الفتاة وشهيتها. يلاحظ القارئ اهتمام الكاتبة بتقديم قصتها على لسانراوية، ما يكثّف مشاعر وهواجس وينطوي في الوقت نفسه على فكرة التوحّد بين الفنانوشخصية لوحته حيث نكتشف في اللقطة النهائية أنها تحضر إلى وعي القارئ باعتبارهالحظة بين الواقعية والمتخيل ترتفع إلى جماليات عالية. نلمح في القصص بحثا جمالياعن خلفيات الحادث الواقعي ووشائجه مع عالم الروح الداخلية وشعابها المتشابكة: "لكنها كانت تحدّق إليّ بعينين ليس لهما شبيه، بعيني تلك التي كانت تسكن مخيلتي،وحين اقتربت منهما وجدتهما نسخة من عيني". نتوقف أمام نظرة الكاتبة إلى الواقعية فيالأدب ونراها تتحقق بتتبّع صورة الهموم الواقعية في داخل الشخصية القصصية وهي قراءةتقارب رسم صورة حسّية للمشاعر والهواجس معا. في قصة "لا أريد إلا وسادتي" تقدّمزينب البحراني عالم الهموم اليومية التي يصادفها بطل قصتها في النهار وقد تحوّل إلىعالم من الكوابيس أو إلى كابوس متّصل تتتابع خلاله التفاصيل والجزئيات، وهذا يعكسشغف الكاتبة بالعوالم الداخلية. القصة بسيطة في خطوطها العامة لكنها تحمل قوّةالتعبير عن الضغط الثقيل للحياة العملية بما تتضمنه من مظالم وقسوة. هي قصة عن عالمنراه ونعيشه يوميا، ومع ذلك تفارق الكاتبة صورته الخارجية المألوفة والمكرّرة وتذهبلاستطلاع الصورة الأخرى التي تجسّد حالة نفسية تتشكل على وقع الحدث الملموسوجبروته، وهي صورة ترسمها البحراني بتكثيف بالغ لا يسترسل ولا ينغمس في التفاصيل،بل يقدم اللوحة بوقائعها مباشرة. قصص الكتاب هي حكايات تلتقطها الكاتبة منمشاهدات حدقتها، وأيضا وأساسا من وعيها الداخلي وإرهاصات مخيلتها التي نلمس بصورةجليّة أنها حجر الزاوية في القصص كلها، فنعيش معها وخلالها ما يشبه رحلة في عوالمقصص نفسية – اجتماعية لا تزال تجاربها قليلة بل نادرة، وإن كنا قرأنا قصصا ناجحةللراحل يوسف إدريس. زينب البحراني تكتب هنا قصتها الخاصة التي تنطلق من حدقة كاتبةأنثى تستعير صوت الرجل ووعيه للتعبير عن روحه وخبايا نفسه. اللعبة التي رأيناهافي القصة الأولى تعود الكاتبة إلى تقديم ما يشابهها في قصة أخرى، "فقاعة عطر". فالمرأة التي يتخيلها البطل وقد وقعت أمام سيارة مسرعة عندما اكتشفت وجوده بعدتهرّبه منها، سرعان ما يكتشف أنها ليست سوى جسده هو، وقد سقط أمام السيارة المسرعةذاتها. هي رغبة الكاتبة إذاً، في مناوشة صورة الإنسان بنسختيه الأنثوية والذكورية،في لحظة من التصادم تجمع الحب إلى الافتراق، الرحمة إلى القسوة. تكتب البحراني ذلكبشغف من يعيش هاجس التعبير بشفافية عالية تتحوّل معها القصة القصيرة إلى مشهديةجارحة، فيها الكثير من حدّة تدفعنا إلى التأمّل وتقليب المعنى على وجوههكلها. كتابة هي مزيج من الشغف بفنية الشكل السردي ومحاولة استنفاذ بلاغة تكثيفه،ومزيج من رهافة الموضوعات التي تختارها وتكتب من داخلها، وفي هذا المزيج تتكئ القصصعلى نقطة رئيسية هي ضعف الذات البشرية وقوّتها معا، حيال المدى الذي يجعل الأبطالالقصصيين يسقطون في منتصف المسافة مع الحب والحبيبة أو ينكسرون في ذروة شعورهمبالانتماء السلبي إلى حياة عاصفة.
تقدم هذه المجموعة القصصية كاتبة موهوبة تمتلكموهبة كتابة قصة من النوع الذي نعثر فيه على التشويق بمعناه التقليدي وعلى حيويةالحياة الجديدة وما فيها من لهاث وتسارع تعبّر عنهما بجمالية وأسلوب رشيق. هي قصصتشبه الحياة، ومع ذلك هي صورة الحياة، الصورة الأخرى التي تراها حدقة الكاتبالفنان، وتحسن تقديمها.
راسم المدهون
هتـــون
المساهمات : 156 تاريخ التسجيل : 01/01/2008
موضوع: رد: فتاة البسكويت الخميس مارس 27, 2008 7:14 pm
مشكورة على طرحك عزيزتي ....
تقبلي مروري
butterfly
المساهمات : 61 تاريخ التسجيل : 01/01/2008
موضوع: رد: فتاة البسكويت الخميس أبريل 17, 2008 1:17 pm