غريب عسقلاني – قصة قصيرة
النورس يتجه شمالاً
تطلعت المرآة صوب البحر, رغوة الزبد تمتطي هامات الموج, والهدير يفسد سكون الضحى على الشاطئ, وريح تشرين تمتص دفء الشمس من أزقة المخيم.. وثمة نورسة بيضاء تتجه شمالاً تنبئ باقتراب النوّة..
حدثت المرآة نفسها "أهو موعد ركوب البحر!" واشتاقت لطعم السردين المهاجر, ابتلعت ريقاً مراً وتأملت سواد المخيم المجلل بالسواد.. مرق الصبي اليتيم يصيح:
- افتحوا الأبواب..
استطالت تستجلي الأمر شر المخيم, رأت الناس يتدافعون إلى الأزقة, وسيارات الجيب تحوّم في الشوارع تعفر ثعابين ترابية تتصاعد.. تغلف فضاء المكان, تبدوا ظلال الكائنات أشباحاً تتخبط..
انسحب الشباب نحو الشاطئ, تعثر أحدهم فانخع قلبها, ارتمت عليه, لهجت:
- يا ولدي
شعرت به يتحوصل في جوفها فاستماتت عليه حتى ابتعدت سياراتهم, هدأت واستقر صدرها, وانتبهت لوخزات تثير جاد بطنها.. كان رجلاً وكانت امرأة, احمرًّ وجهها وانزوت في دارها مرتبكة.. حدثت جارتها:
- وقع على الأرض فتكومت عليه,استكان في حضني, وعندما نهضنا كان فحلا كثيف الشارب.
- هكذا هم أطفال عندما نريد, ورجال عندما يريدون.
***
قصدت المرآة سوق المخيم, كان القصير ينادي على سمك طازج, شدتها أسماك المرمير الفضية, تساءلت لم تهدأ النوة بعد!! فتحت خيشوم سمكة فتأكدت من فعلة شنعاء, قذفت السمكة إلى الفرش الخشبي حانقة.. قال القصير:
- من سمك بحرنا.. أُقسم.
- أعرف ذلكَ
- أنه صيد اليوم.. طازج.
- أغرف ذلك.
بُهت القصير.. غضب آمر سكن عينيها:
- كيف اصطدته؟
ومضت لم تلتفت إليه..
حدث النواتي عن سمك الرمير الذي يعيش في زوايا الصخور العميقة يجاور أبا جلمبو الأسود, ويغادر مكامنه بعد هبوب النوة, يصعد للسطح, يستجلي دفء الماء ويتلاقح وع أشعة الصبح على مرايا الماء, وتعود إناثه تضع البيض تجدد دورة الحياة, فيما تبقى الذكور تلهو مع دفء الشمس فنقع بكامل فحولتها في شباك الصيادين.. سأل أحدهم:
- كيف يأمن المرمير أبو جلمبو الأسود؟
- المرمير عاشق يمارس فنونه وله وسائله, حيث تعكس قشوره الفضية بريق الضوء, فيموّه على أبا جلمبو بطيء الحركة, ولا يخلو الأمر من ضحايا.
عادت المرأة إلى الزقاق, رأت الناس يخرجون من بيت جارتها ويندفعون محو الشاطئ, رف قلبها وطارت..الأطفال ممددون عند حواف الموج يتنفسون بهدوء والنواتي يصيح بالناس:
يا خاق الله وسعوا, خلوا النسيم يمر عليهم.. لا تفسدوه..
حاذاها اليتيم وهمس:
- طاردوني وكان الباب كالعدة مفتوحاً, فقصفوا الدار بالغاز..
قبلته, ونملها جلد بطنها فافتقدت كثيف الشارب, قالت النواتي:
بصق على الأرض:
- اخص لم تفارقه عادة الصيد بالسم.
***
قصدت المرآة الشاطئ بعد سكون البنوة, ومضت في الماء حتى ركبتيها..هو عيدها وللفارس وصيته, حلت ضفائرها وتركت شلال شعرها لنسيم البحر, انبهرت لدفء شمس الضحى في تشرين وامتلأ بدنها خصوبة, وتابعت على صدر البحر نورسة بيضاء تلحق سربها المتجه إلى عسقلان وكانت مجهدة.. كان النواتي يشق الحر بزورقه الصغير حتى غيبه المدى.. عبت نفساً عميقاً وقفلت راجعة, رأت اليتيم يلهث مقطوع الأنفاس, قرفصت على الرمل, وفتحت ذراعيها, تلقفته وغطت وجهه المذعور بضفيرتها, فدس رأسه في صدرها.. بكت لهول الخوف في بدن الصبي,واشتاقت لولد, قال الصبي:
- مات.. خلصني منهم, فوقع بين أرجلهم وهجم الناس..
وفي المساء رجع النواتي, وتحدث الناس عن شاب خلص اليتيم منهم فحاصروه, وعندما اشتد عليهم حصار الناس أطلقوا عليه النار فصرعوه.
وفي العتمة راحت المرآة توزع صيد النواتي على البيوت, وانشغل النواتي بتقليب الأسماك على النار, وعندما نضجت حث الصبي.
- كُل حتى يشتد عودكَ.
بكى الصبي:
- قتلوه يا عمي..
- هو حد أله يا ولدي..
وعض على شفتيه يبتلع دمعة داراها عن الصغير, لكن الدمعة انزلقت, طشطشت في جمرات النار وتبخرت, تمتم " فقد البحر رجلاُ كثيف الشارب" وأخذ رأس الصبي بين كفيه:
- متى تركب البحر يا ولدي؟
- ليس قي البحر حجارة.
- وليس في البحر جنود..
***
تهيأ المرأة تستمرئ الحالة, وكعادتها منذ سنوات يسكنها خدر لطيف ينمل خلاياها.. ينبض في زوايا البدن العفي وجداً وخصوبة.. قبلت اليتيم فانطلق يجمع لسان البحر*, والحبار يتخفى عن أعدائه بتلوين ماء البحر بحبر داكن.
ومضت إلى جارتها تشعلان الفنيل المنقوع بزيت الزيتون تصنعان كحلاً "وكحل الزيتون دواء وزينة"
وعندما مالت الشمس نحو البحر غمرت الأشياء حمرة الشفق, وراح النواتي والصغير يجمعان زلف الشاطئ كي تلضمه المرأة قلادة وأساور.
وفي الليل شفت الدنيا فهربت المرآة إلى السماء من شق القرميد تطارد النجوم نجمة إثر نجمة..
ومع الفجر, نصعت أسنانها بمسحوق لسان البحر, وشاغلت جفنيها بكحل الزيت, واطمأنت على غمازة ذقنها, وغسلت ضفائرها بمنقوع النعناع البلدي وفردت شعرها وانطلقت.. وعند بوابة الأنصار** سألتها عجوز تنتظر:
- من يكون؟
- عريسي.
- زوجكِ؟
- ليلة واحدة وأخذوه.
تحسست بطنها:
حاصروه فبل أن تنمو بذاره
أوصت العجوز:
- كوني نضرة بهية حتى يعود
وراحتا تنصتان لصوت أعرج أخذ ينادي على الأسماء, وأسندت العجوز ودخلت للزيارة.. هللوا من خلف الطاقات الشبكية:
- أطلت العروس.
رفعت ذراعيها,وكشفت عن صدرها, فسطعت قلادتها على نصاعة جيدها الطويل, ورن زلف أساورها, وأمام طلقتها جلست خاشعة, فتسارع وجيب الرجل خلف شباك الطاقة, سهمت حتى خرج صوته:
- ما الأمر؟
- البحر حنون والتواتي يشق البحر كلما لاحت له الفرصة.
- وماذا؟
- نشرت ضفائري لنسيم الحر بعد النوة.
- وبعد؟
- اليتيم يشب إلى عتبات الصبا.
غمزت بشوق وضحكت غمازة ذقنها,ضحك.. فضحكت, قالت:
- ولكنه لم يصبح كثيف الشارب بعد.
أخرج لسانه, فاستحلبت ريقا عذباً وتهدج صوتها:
- الأرض اشتاقت لبذارها.
وحط بينمها صوت أعرج.. انتهت الزيارة, وجم الرجل خلف الطاقة, وتمرد بؤبؤ العين الكحيلة, قالت على عجل
- سأنشر ضفائري مع ريح الشمال.
ونهضت تسبقها رنة أساورها..
عادت إلى البحر, كان اليتيم يتابع صغار الموج وهي تتكسر على رمال الشاطئ.. تعلق برقبتها وراحا يراقبان البحر ويتابعان النوارس البيضاء المتجهة شمالاً..
-----
* لسان البحر: صدفة كلسية هشة يدعم بها حيوان الحبار الرخو جسده, يستخدم الناس في المخيم مسحوق الصدفة في تنظيف الأسنان.
* معتقل أنصار في غزة, أنشأه الاحتلال إبان الانتفاضة الأولى 1987.