احببت ان اسرد القصه لتكون الصورة اوضح لمن لم يقرأها
" لوحةٌ وبـزّة مـتـّسـخة"
من خلف زجاج الواجهة بدت بعض ملابس رجالية معلقة على جدران المحل، تتوسطه منضدة خشبية متعبة مستطيلة الشكل مجردة إلا من بعض خطوط وأشكال رسمت على سطحها البني بالإضافة إلى شريط قياس ومقص ودفتر وقلم مكافحين.
على جزء من الجدار الجانبي علت لوحةٌ لصورة رجلٍ تبدو عليه أمارات الوقار والإباء محاطة بإطارٍ ذهبي اللون أرهقه تراكم الغبار.
في الركن القريب من الواجهة يجلس صابر على كرسيه الذي فقد إحدى قائمتيه الخلفيتين منكفئاً على ماكينة تئن من توالي السنين، يرتدي أسمالاً حانقة على جسمه النحيل ذي الرأس الكبير بوجه حنطي يتخلله بهاق اختبأ جزءٌ منه تحت لحية يميل لونها إلى الرمادي.
هاهو منهمك في عمله يترقب ندف القدر مستذكراً بطولات السروج الخوالي، تارة يقص خيطاً وأخرى يحبك طرفاً من قماش أو يغير الخيط طبقا للون الثوب أو يفرط خياطة لا يكنّ ولا يتثاقل وكأنه آلةً مبرمَجة.
رغم رثاثة حاله إلا أن ومضة سعادة تعلقت بأهداله استقى سناها من ربيع قلبه فحمد الله على نعمائه وراح يترنم بأهزوجة قطعها صوت بوق قريب، نظر خلال الزجاج فإذا بمركبة فارهة تقف أمام الباب، السائق تحيط بوجهه الأسمر كوفية بينما سيدة شقراء تجلس في المقعد الخلفي موجهة عينيها الزرقاوين نحوه، تشير بسبابتها أن يأتي إليها.
تسارعت خفقات قلبه وتعرق جبينه، راح يتلفّت حوله ربما غيره المقصود بالإشارة...
خرج بنصف إرادته متجهاً نحوها وبحروف مرتجفة بالكاد طاوعته قال :أمرك سيدتي، ماذا يمكنني أن أقدم لكِ؟
بنبرة آمِرة أجابته: أريد أن تخيط لسائقي بزّة، سأدخل لأختار التصميم.
وقعت كلماتها كصاعقة عرّشت على نفسه صقيعاً أشعره بجرح الكبرياء، وتذكر العهد الذي قطعه على نفسه بألا تدخل المحل سيدة، فلازالت قسمات وجه جده حاضرةً في مخيلته وهو يقول لوالده: "إذا دخلت المحلَّ سيدةٌ فإنها تشق ربيعَ الأرض بسيفها، وتسقيه من أودية الخرافة؛ فتنبت بقول الخوف في أوحال الهوان"
ماذا باستطاعته أن يفعل؟
تلمّس في شتاته أشلاء شجاعة منهكة وقال: لا تكلفي نفسك عناء الدخول سيدتي، سأحضر لكِ أحدث التصاميم وأجملها لتختاري وأنتِ مرتاحةٌ هنا.
قبل أن يعطيها فرصة الرد دخل مسرعاً وفي لمحة خرج يحمل مجموعة من البزّات الجاهزة يعرضها عليها.
أشاحت بوجهها مومئةً عدم استحسانها.
رجع ثانية وأنزل جميع البزات عن الجدار إلا واحدة تركها متعمداً لثقته أنها لن تعجبها فتصميمها قديم جداً وقماشها متسخ بمرور السنوات، عاد مسرعاً، لم تنظر إلى ما أحضر وقالت: لا يروق لي شيئ منها.
حدث نفسه : أليس هو مَن سيرتديها! لمَ لا أسأله؟
استشعر فرجاً قريباً وتوجه إلى السائق: إليكَ آخر التصاميم وأكثرها طلباً لهذا الموسم، أليست جميلة؟
طأطأ الأخير رأسه وقال: الأمر لسيدتي، هي تفصّل وأنا ألبس.
نزلت السيدة من المركبة رافعة أنفها وقالت بغطرسة: أسمعت؟ أنا صاحبة القرار هنا ولي الخيار، سأدخل المحل وأختار بنفسي ما يروق لي.
وهو يرتجف خوفاً: ولكن المحل غدا فارغاً من التصاميم سيدتي.
لم تأبه به وتقدمت باتجاه المحل
سبقها إلى الباب هلِعاً بقدمين لا تحملانه.
توسطت المحل وأشارت إلى البزة المتبقية
بوَجَل: هذه قديمة جداً ولن تعجبك سيدتي
بعنف: أنزلها
مد يداً مرتعشة إلى الجدار حيث تتكئ البزة على حمالة خشبية معلقة بمسمار أثقلته طبقة من الصدأ الأزلي، بحركة هزيلة أخذ يحررها من نتوءات الحمالة الشائكة بها، وما إن خلصها حتى نَسلت منها جماعاتٌ تشبه الصراصير هربت في كل صوب.
صاحت السيدة فرحةً: رائع، أختار هذا التصميم
جذبت الكرسي ذا الثلاث قوائم وجلست عليه مردفةً: سأبقى هنا ريثما تنتهي من صنعها.
صرخ صابر صرخة مَن رأى وجه (ميدوزا) ، وراح ينكمش ويصغر ويصغر حتى غدا بحجم صرصار ثم قفز واختبأ في جيب الجاكيت
*انشراح حمدان